2009-02-09

عودة طائر مهاجر


وقف يتأمل نفسه كعادته أمام المرآة .. يُعدل من هندامه .. يصفف شعره .. لفت انتباهه شعرات بيضاء تلمع في رأسه .. تعجب لأنه ولأول مرة ينتبه لها مع أنه في كل يوم يقف أمام المرآة بضع دقائق قبل أن ينطلق إلى عمله .. ربما لأن هذه هي المرة الأخيرة التي سيقف فيها أمام هذه المرآة .. ولم يتبق له سوى القليل من الوقت يودع فيه هذه الجدران التي احتضنته بينها وحيداً لزمن طويل

تنهد بقوة وهو يداعب شعراته البيضاء .. وهو يُحدث نفسه كم مرت السنوات سريعاً .. تذكر عندما أتى إلى هذه البلاد وهو ابن الخامسة والعشرين .. واليوم عمره قد جاوز الأربعين .. وهذه الشعرات التي لم ينتبه لها شاهد على هذه السنوات التي تسربت من بين يديه

ما كان باليد حيلة أن يسافر بعيداً عن بلده .. ويترك أهله وأصحابه .. تذكر عندما تخرج من الجامعة وأخذ يبحث عن عمل ليساعد والداه وإخوته ويرد لهم الجميل .. لكنه في كل مرة كان يصطدم بجدار المحسوبية والواسطة .. من أين يأتي بهذه الواسطة ليعمل في مكان مناسب وهو ابن هذه الأسرة الفقيرة .. حتى عندما وجد عملاً بعيداً عن كل ما درسه .. كان يضطر أن يستدين ليكمل الشهر .. فالراتب لا يكفي المواصلات والطعام

لم يكن في نيته السفر ولم يكن يبحث عنه .. في يوم من الأيام اتصل به زميله باسم صديق طفولته ودراسته والذي سافر إلى تلك البلاد بعد التخرج مباشرة لأن عمه يعمل هناك .. أخبره أن هناك فرصة عمل براتب جيد وعليه أن يحضر أوراقه ويستخرج جواز السفر ويجهز نفسه للسفر

أخذ يتذكر لحظات الوداع .. لأول مرة سيبتعد عن بلده وأهله .. وكيف أنه لم يتمالك نفسه وارتمى في أحضان أمه يقبلها ويقبل يد والده .. حينها اشتبكت الدموع على الخدود .. لكن هذه اللحظات أصبحت أقل درامية بعد ذلك حينما تحين لحظة الوداع بعد كل إجازة كان يقضيها

دارت أحداث خمس عشرة سنة في مخيلته بشكل سريع .. انتبه أنه لا زال واقفاً أمام المرآة يتأمل تلك الشعرات البيضاء .. وأنه لم يتبق على موعد الطائرة التي ستقله إلى بلده غير ساعة واحدة .. حمل حقائبه ونزل مسرعاً إلى التاكسي الذي كان ينتظره ليحمله نحو المطار .. أخذ التاكسي يتجول به في شوارع المدينة يلقي آخر النظرات كأنه يودعها الوداع الأخير

في المطار أنهى إجراءات السفر .. انتهى به المقام داخل الطائرة في أحد المقاعد بجانب النافذة .. انطلقت الطائرة لتعلن عودة الطائر المهاجر إلى عشه ليستقر فيه مودعاً الغربة بكل ما فيها .. أسند رأسه إلى الخلف وهو يتأمل السحاب من حوله .. أخيراً سأعود إلى بلدي .. وستذهب أيام الغربة بلا رجعة .. كانت هذه هي المشاعر التي تسيطر عليه .. وهو يُحدث نفسه بأن أول شئ سيفعله عندما ينزل من الطائرة أن يسجد لله على أرض وطنه الحبيب

أخذ يتفكر .. كيف سيستقبله ابناؤه وزوجته .. كانت سنوات الغربة كفيلة أن تترك مسافة بينه وبين ابناؤه .. عمر وإيمان التوأمين في الصف الأول الإعدادي ووليد ابن السنتين الذي لم يره غير مرة واحدة .. بالرغم من أنه كان حريصاً على أن لا يغيب عنهم .. إما أن ينزل إليهم في الإجازة أو يستقدمهم لزيارته .. لكنه كان يستشعر أن هناك فاصل يفصله عن ابناؤه .. تفكر في والداه اللذان تقدم بهم السن ويحتاجانه أن يكون بينهما يعتني بهما .. بالتأكيد سيفرحون بعودته ووجوده بينهم

وصلت الطائرة .. تحدث كابتن الطائرة بعبارته المشهورة والتي اعتادت أذنه على سماعها : هبطت الطائرة بسلامة الله على أرض الوطن نتمنى لكم قضاء أوقات سعيدة .. قام جميع الركاب من مقاعدهم .. وأخذ كل واحد منهم يفتح الكابينه التي تعلوه ويأخذ أغراضه .. والجميع يتسابقون يملأ الشوق قلوبهم إلى أحباءهم الذين ينتظرونهم في الخارج .. إلا هو لم يتحرك من مكانه .. أخذ يطيل النظر إلى أرض وطنه من نافذة الطائرة .. وعلى وجهه تعلوا ابتسامة لم ترتسم على وجهه منذ زمن بعيد

خلت الطائرة تماماً من جميع الركاب .. واستعد طاقم الضيافة للنزول .. اقتربت منه إحدى المضيفات كانت في آخر الطائرة تطمأن أنه لم يتبقى أحد على متن الطائرة .. تحدثت إليه : حمد لله على السلامة .. لكنه لم يُجبها .. وعينه لم تزل تنظر من نافذة الطائرة على أرض وطنه .. وما زالت ترتسم على وجهه هذه الإبتسامة .. لم يُجبها لأنه كان قد فارق الحياة

23 التعليقات:

mennatallah يقول...

يا الله حقا انا اريد وانت نريد والله يفعل ما يريد ....... اد اية عمر الانسان قصير ... جزاك الله خيرا

mahasen saber يقول...

عمر الانسان ما بين رمشة عين والتانيه


فمش مستهاه الدنيا غربه وبعد عن اليى بنحبهم


على فكره يا حبيب انتا شبه ابن خالتى جدا جدا حتى الدقن

ربنا يكرمك ويكرمه ويكرمنا جميعا

mohamed ghalia يقول...

كله قضاء وقدر
دمت بكل الود أخى

جمعاوى يقول...

متبعه أوى يا هندسة

ربنا يسامحك ..

حسن حنفى يقول...

يااااااااااه

تصور مقدار العذاب لاهله اللي كلهم كانوا منتظرين قدومه اولاده اللي كلهم كانو ا علي احر من الجمر للقياه

Kiara يقول...

يااااااااااااااااااااربي

مؤلمة مؤلمة

مش عارفه بجد اقول ايه

كل شئ مكتوب ومقدر

Jana يقول...

كان يتمنى ان يصل لأرضه سالما يسجد لله شاكرا..مقبلا رقعة الأرض تحت قدميه ..فاحتضنته بداخلها ووراه ترابها
.........

رائعة واسلوب سردك هادىء وممتع

Fahd يقول...

جميلة وحزينه ومخيفه

وابكتني

انت كتبت القصة دي بتخوف نفسك من المصير ده

ولا عايز الناس تخلي بالها انها ممكن تنسي في غمرة بحثها عن المال ان تنسي نفسها وابناءها وحتي ان تنظر في المراه

فعلا نهاية صعبه

حتي وان لم يمت فيكفي ثمن الغربة

ويكفي انه اصبح غريب عن بيته


ربنا يرجعنا بالسلامه يا اخي

انت خلصت اكل ولا لسه

Heba Sayed يقول...

قدر الله ماشاء فعل

EMMY BABY يقول...

يااااااااااااااااااااااربى

بجد والله الانسان يقعد طول عمره يسعى ورا حاجة واول مايقترب من تحقيقها ربنا يتولاه برحمته

ربنا يرحمنا جميعا

بجد قصة رائعة

تحياتى

ايمى

( : ريحانة الجنة يقول...

يااااأللة صعبة أوى
لية بس كدة مخلتش فرحة الراجل تتم

فييين الكلمات اللى توحى بالتفاؤل
بجد صعبة اوى يارييت ماتكتبش كلام فية حزن تانى كدة ربنا يكرمك ياشيخ انا مابحبش اى حاجة فيها حزن خالص
يعنى دة انا لسة صحية من النوم وقمت على الكمبيوتر على طول تعمل فية كدة؟!
ربنا يسامحك


دعواتى لك بكل الخير:بنت الاسلام

مهندس مصري بيحب مصر يقول...

ربنا يستر علينا
علشان كده كل واحد فينا لازم يحدد هدفه من الغربة اللي بعد ما يحققه يقول كفاية كده و يرجع بلده

لكن لو عايز فلوس كتير علطول
يبقى إثنان لا يشبعان طالب علم و طالب مال

ربنا يستر علينا و يرجعنا بلادنا على خير

Unknown يقول...

ياالله
كان الله
فى عون امه
وابيه وزوجته واولاده
الان المسافة بينه وبينهم
ستكون هى المسافة بين الموت والحياة!

Unknown يقول...

تعلم حينما عملت بالخارج
لم احضر للزيارة ولا مرة
ليس قسوة منى والله ولكن اشفاقا
على نفسى وعلى من حولى من قسوة الوداع ومعرفة بانى إن عدت لبلدى
فلن ارجع ولن اكمل ما نويت عليه
(اخدت الشوط)مرة واحدة ثم رجعت
وعقبال كل مسافر يارب يعود
لوطنه سالم غانم باذن الله

مصطفي احمد يقول...

بالفعل ما اقساها
عندما يموت امل الانسان ولكن هذه المره لا توجد اي طريق لاعاده احياؤه فقد مات هذا الانسان

عمرو جويلى يقول...

السلام عليكم
أخى الحبيب ما أصعب الغربة وما أصعب الفراق ولكن القضاء والقدر
تحياتى

جنّي يقول...

السلام عليكم

قصة جميلة رائعة حزينة

بس ليه النهاية المؤلمة دي يا حبيب ..

ربنا يسترها علينا وعليك يارب

ويرجعنا لبلادنا سالمين غانمين ..

اللهم آمين

محمد مارو يقول...

ما اصعب لحظات الغربه التى تمر على الانسان

و ما اجمل لحظات لعوده الى الاهل

و لكن ما اصعب وجوده فى بلده عاله بدون عمل

انا معجب بتفكيرك اوى و اتمنى ان نتواصل بالميل

maro_tatu@yahoo

بنت الاسلام يقول...

والله جسمي قشعر في الاخر لما مات

وبعدهالك يابلد

شعرنا ابيض

من غير مانشوف منك

غير ظلم

وهجرة

وطائر

حلمه

ان يعود

ولكن بعد فوات الاوان

رائعة في الاسلوب وحبكة درامية مؤثرة كتبت النهاية

تحياتي

فشكووول يقول...

السلام عيكم حبيب
اهلا بيك على مدونتى .. كفايه انك جيت
تصدق يا حبيب ان بلدنا ضاقت باهلا وضاق اهلها بها .. هل معقول هذا ان نفارق اوطاننا من اجل لقمة العيش التى تضن بها علينا وطننا .. مصرنا اصبحت طارده لابنائها .. لا تحبهم .. تأكلهم مثل القطط
انا لله وانا اليه راجعون

نـــــور يقول...

عفوا اخى حبيب

انا هرد على الكومنت بتاعك عندى

انا فى كلامى مش قصدت ابدا انى احتفلت لعيد الحب او ناويه احتفل بيه ابدا حتى لو كان لى خطيب او زوج
بس الحكايه سخريه من ظروف نفسيه سيئه بمر بيها اليومين دول

حتى قلت ف وسط الكلام انى مكنتش اعرف تاريخه ولا بحب المظاهر بتاعه فى الجامعه لما شوفتها

حبيت اوضح وجهة نظرى لانك من الناس اللى تهمنى صورتى قدامها

تحياتى دوما ليك ولا تنسانى من دعائك

بذرة امل يقول...

قصة فى منتهى الجمال
والألم
فى نفس الوقت
على الرغم من أنها قصيرة
إلا إنها بتحمل معانى كبيرة
كلنا عايشينها وبنشوفها كل يوم

د.توكل مسعود يقول...

على مدونتى مقالتان:

غربة والعود أحمد

والعود فيهما هو العود إلى الله فى الآخرة
وكأن مقالتك تعضد مقالتى

شكر الله لك